قمم الرياض والقاهرة- مبادرات عربية لمواجهة التهجير وإعادة إعمار غزة.

يشهد الأسبوع القادم انعقاد قمتين عربيتين، الأولى مصغرة في الرياض والثانية طارئة في القاهرة. تتناول القمتان مناقشة المبادرة العربية لغزة ومرحلة ما بعد الحرب، مع توقعات بأن تُقرّ القمة الثانية "البديل العربي لخطة ترامب"، ومنحها الشرعية والإجماع العربي الضروريين.
مع إدراكنا لأهمية العمل العربي المشترك، فإننا لا نعلق آمالًا كبيرة على هذه القمم، ولا ننتظر بفارغ الصبر المؤتمر الصحفي الختامي الذي سيعلن القرارات والنتائج.
فقد خبرنا طويلًا واقع العمل العربي "المفكك"، حيث يصدر النظام الرسمي العربي تصريحات عامة تخالفها أفعاله على أرض الواقع. الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، أقدم منظمة إقليمية، غالبًا ما تتجاهل مواقفها وقراراتها الجماعية، ولا تلتزم حتى بمراجعة نصوصها ومضامينها.
نعلق آمالًا أكبر على قمة الرياض، التي ستجمع دولًا "فاعلة" ومؤثرة في معالجة مختلف أزمات المنطقة، بما في ذلك أزمة غزة والقضية الفلسطينية برمتها. بعض هذه الدول أصبحت مهددة بشكل مباشر، فبعد أن وجهت الولايات المتحدة وإسرائيل ضربة قاصمة لما كان يُعرف بـ "محور المقاومة"، تتجهان اليوم لضرب "معسكر الاعتدال"، الذي يضم حلفاء وشركاء وأطرافًا أبرمت معاهدات سلام، في مفارقة تاريخية عجيبة.
تكمن أهمية قمة الرياض في أنها تتجاوز مجرد التضامن مع الفلسطينيين ودعمهم، لتشمل "الدفاع عن الذات"، وحماية أمن واستقرار الدول العربية، وصون هويتها وكيانها، وتعزيز مكانتها وهيبتها.
في معركة دعم الفلسطينيين ومساندة مقاومتهم، يمكن أن ننتقد التردد والعجز والتقصير، وربما تواطؤ البعض. أما في معركة "الدفاع عن الذات"، فيجب أن نراقب كيف سيكون الأداء السياسي والدبلوماسي العربي. نأمل في أن يكون أكثر فاعلية وحزمًا، ولكننا غير متأكدين من الحدود التي سيصل إليها.
إننا ننظر بتقدير لمواقف مصر والأردن والسعودية، الدول التي تواجه خطر التهجير واستقبال موجات اللاجئين قسرًا من غزة. كما نثمن مواقف معظم الدول العربية الرافضة لمخطط التهجير الذي طرحه البيت الأبيض. نقول "معظم" وليس "جميع" الدول العربية، بعد أن أبدت بعضها استعدادًا للتجاوب مع خطة ترامب، واكتفت أخرى بإصدار تصريحات لفظية لا ترقى إلى مستوى الفعل.
حتى الآن، لا نعرف التفاصيل الكاملة للمبادرة العربية المضادة، التي وعد ترامب بتسلمها في القمم العربية-الأمريكية القادمة. ولكن جوهرها يكمن في "إعادة إعمار غزة دون تهجير سكانها الأصليين واللاجئين إليها بعد النكبة الأولى".
بهذا المعنى، نرحب بالموقف العربي، فآخر ما يحتاجه سكان غزة خاصة والفلسطينيون عامة، هو "نكبة جديدة". فالنكبة، كما يعرفها الفلسطينيون، ليست مجرد فقدان الأرض، بل تهجير أصحابها أيضًا.
الأصل أن العرب ليسوا بحاجة إلى إطلاق مبادرة جديدة، فعناصر الحل لأزمة غزة في سياقها الفلسطيني الأوسع متوفرة منذ زمن. يكمن سبب الإخفاق العربي في ترجمة هذا الحل إلى واقع ملموس في تردد النظام العربي في استخدام أوراق الضغط والقوة التي يمتلكها. المعرفة بالحل وطرق تنفيذه موجودة، ولكن "الناقص" هو الإرادة الجماعية لتطبيقه. فهل ستتوفر هذه المرة؟
قد يجادل البعض بأن ترامب قدم عرضًا، ومن الطبيعي أن نرد عليه بعرض مقابل. ولكن عرض الرئيس الأمريكي يستبطن "جريمة حرب".
فالتهجير القسري، بكل القوانين والأعراف، يعتبر جريمة حرب. فهل المطلوب من العرب الدخول في مناقصة والبحث عن "مشتركات" لتلطيف "الجريمة"، على قاعدة "اللهم لا أسألك رد القضاء بل اللطف فيه"؟
على الرغم من كل شيء، نفضل النظر إلى "نصف الكأس الممتلئ"، وهو "الإعمار من دون تهجير". وسنؤجل تقييم النصف الفارغ إلى حين الكشف عن الخطة العربية، ومعرفة أوجه الاتفاق والاختلاف مع خطة ترامب، وكيف سيرد الرئيس الأمريكي على العرض العربي المضاد. فإتمام "الصفقة" يتطلب سلسلة من العروض المتبادلة، يختبر فيها الطرف الأقوى قدرته على "تخفيض الثمن". فمن سيكون الطرف الأقوى في هذه اللعبة؟
في اعتقادي، أن معادلة "إعمار بلا تهجير" تمثل نصف الصورة الإيجابية للرد العربي، أما النصف الآخر فيمكن تلخيصه في عبارة: "لا إعمار بوجود حماس والمقاومة". قد تكون هذه نقطة الانطلاق في التفاوض، وقد يراها البعض "الضريبة" التي يجب دفعها للدخول في "بازار" المقايضات والمساومات وفقًا لقواعد "فن الصفقة".
نقول هذا، مع إدراكنا لحقيقة مرة، وهي أن لا أحد يريد أن ينسب فضلًا للمقاومة، أو يعترف بمنجزاتها، أو يمنحها "بريستيج" الإغاثة والإيواء وإعادة الإعمار. فتلك هي أسلحة الحرب في فصلها الجديد، ولن يتخلوا عنها دون ثمن باهظ.
نقول هذا، وفي الخلفية تهديد ترامب بـ "الجحيم" لحماس وغزة، وغريزة الثأر والانتقام التي توجه القرار الإسرائيلي. نقول هذا وفي الخلفية أيضًا شبح الكارثة الإنسانية الذي يخيم على غزة، وسيف التهجير المسلط على رقاب أهلها.
من داخل الصندوق لا من خارج العقل
وصف توماس فريدمان خطة ترامب التهجيرية بأنها "خطة من خارج العقل وليست من خارج الصندوق". وهذا صحيح تمامًا. ولكننا، كعرب، لسنا بحاجة هذه المرة للتفكير خارج الصندوق، بل من داخله. وداخل الصندوق يقول:
يجب على العرب الرسميين ممارسة أقصى الضغوط على السلطة والمنظمة والرئاسة الفلسطينية لفتح الأبواب لمشاركة "الكل الفلسطيني" وبناء مرجعية قيادية موحدة للشعب الفلسطيني، بكل أطيافه.
وأنا على ثقة بأنهم إن فعلوا ذلك، فسيجدون تجاوبًا كبيرًا، وربما غير مشروط، من قوى المقاومة وفصائلها. ولكن قد يتساءل البعض: وهل يريد العرب الرسميون – معظمهم على الأقل – أمرًا كهذا؟ وبمن يستقوي فريق رام الله وهو يرفض الحوار والمصالحة والوحدة؟ ألا يستقوي بتصلب مواقف بعض العواصم العربية الداعمة لمواقفه المتعنتة أصلًا؟
لسنا بحاجة لكل هذا الجدل بشأن "اليوم التالي"، فبإمكاننا – فلسطينيين وعربًا – إفشال أبشع السيناريوهات وأشدها خطورة. وإذا كان لا بد من إلقاء اللوم على أحد، فالملوم هنا هو القيادة الفلسطينية أولًا، لأنها تجاهلت نداءات الوحدة والوفاق، والدول العربية ثانيًا، لأنها لم تستخدم ثقلها الكبير لتليين موقف رام الله، بل على العكس من ذلك، شجعها البعض على التصلب.
لقد صرحت حماس مرارًا وتكرارًا بأنها ليست بصدد العودة لحكم غزة، ولكنها تشدد في المقابل على أن غزة لن تُحكم من دونها. فما بال البعض يفكر في حكم غزة وإدارتها على جثة حماس وأنقاض المقاومة؟ هذه وصفة للخراب، وتمهيد لجولات جديدة من الحرب والمواجهة. وإن كان لا بد من ذلك، فلتكن المواجهة مع الدبابة الإسرائيلية، وليس مع أي دبابة أخرى تحل محلها.
يمكنكم مطالبة الطرف الفلسطيني، الذي صمد وقاوم طيلة خمسة عشر عامًا، وقدم طوفانًا من الشهداء والتضحيات، بإبداء قدر أكبر من المرونة، وتقديم المزيد من التنازلات غير المرغوبة، على الأقل لرفع المعاناة عن سكان غزة. ولكن لا يمكنك، دون المجازفة بتعميق الجرح وإطالة أمد التعافي، مطالبة هذا الفريق بإطلاق النار على نفسه، وممارسة انتحار جماعي، إرضاءً لساكن البيت الأبيض، وبحجة تقديم "عرض مقابل مقنع"!
من منطلق "براغماتي" محض، ننصح القمتين في الرياض والقاهرة بالبحث عن حلول واقعية قابلة للتطبيق، حتى لا تبقى حبيسة الأدراج، عاجزة عن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام، كما كان حال الكثير من المبادرات العربية السابقة. وأن تنطلق من "مرونة المقاومة" التي قبلت بحكومة وفاق من خارج الفصائل، وقبلت بـ "الإسناد المجتمعي" كما تضمنته المبادرة المصرية، وألا تفكر للحظة واحدة بالتساوق مع ما يريده اليمين الشعبوي في البيت الأبيض، واليمين الفاشي في "الكرياة".
نعلق آمالًا على فهم القاهرة العميق لثنايا ودهاليز غزة والقضية الفلسطينية برمتها، ونعتمد على قناعة مصر بأن فتح الباب أمام مشاريع إحراج حماس وإقصائها سينعكس سلبًا على أمن غزة وسيناء ومصر ككل.
ونستند إلى إدراك توصلت إليه القاهرة بعد تجربة مريرة، وهو أن حماس في غزة تمثل صمام أمان للأمن القومي المصري، حتى وإن كانت تشكل تهديدًا للأمن الإسرائيلي. فأمن مصر ليس مرادفًا لأمن إسرائيل، بل أجزم بأن التهديد الأخطر للأمن القومي المصري يكمن في "نظرية الأمن الإسرائيلية". بمعنى أن سكان غزة ومقاومتهم يشكلون خطًا دفاعيًا متقدمًا عن أمن سيناء والسويس والوادي.
ونستثمر في "الصدمة" التي أحدثها سيد البيت الأبيض، لحسابات دول عربية أخرى مجاورة وحساسياتها. نعتمد على حقيقة أن المسألة اليوم تجاوزت فكرة التضامن والإسناد للفلسطينيين، بكل ما شابها من نواقص وثغرات، لتصبح قضية داخلية تتعلق بأمن وسيادة واستقرار دول عربية مؤثرة. فهل ينتقل العرب في ختام قمتي الرياض والقاهرة إلى موقع الفاعل بعد أن ظلوا لسنوات طويلة في موقع المتلقي؟
